فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولهذا قال علماؤنا أحوال الشهداء طبقات مختلفة ومنازل متباينة يجمعها أنهم يرزقون، وقد تقدم قوله عليه السلام: من مات مريضًا مات شهيدًا وغدى وريح برزقه من الجنة وهذا نص في أن الشهداء مختلفو الحال وسيأتي: كم الشهداء؟ إن شاء الله تعالى.
الخامس: فإن قيل: فقد روي ابن ماجه عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لشهيد البحر مثل شهيدي البر والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر، وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله عز وجل، وإن الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا لدين، ولشهيد البحر الذنوب كلها والدين؟ قلنا: الدين إذا أخذه المرء في حق واجب لفاقة أو عسر ومات ولم يترك وفاء فإن الله تعالى لا يحيسه عن الجنة إن شاء الله شهيدًا كان أو غيره، لأن على السلطان فرضًا أن يؤدي عنه دينه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ترك دينًا أو ضياعًا فعلى الله ورسوله، ومن ترك مالًا فلورثته فإن لم يؤد عنه السلطان فإن الله تعالى يقضي عنه ويرضى خصمه.
والدليل على ذلك ما رواه ابن ماجه في سننه عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الدين يقتص أو مقتص من صاحبه يوم القيامة إذا مات إلا من تدين في ثلاث خلال: الرجل تضعف قوته في سبيل الله فيستدين ليتقوى به لعدو الله وعدوه، ورجل يموت عنده رجل مسلم لا يجد ما يكفنه فيه ويواريه إلا بدين، ورجل خاف على نفسه العزبة فينكح خشية على دينه. فإن الله يقضي عن هؤلاء يوم القيامة، وأما من دان في سفه أو سرف فمات ولم يوفه أو ترك له وفاء ولم يوص به أو قدر على الأداء فلم يوفه، فهذا الذي يجس به صاحبه عن الجنة حتى يقع القصاص بالحسنات والسيئات على ما يأتي فيحتمل أن يكون قوله عليه السلام في شهيد البحر عامًا في الجميع.
وهو الأظهر لأنه لم يفرق بين دين ودين ويحتمل أن يكون قوله فيمن أدان ولم يفرط في الأداء وكان عزمه ونيته الأداء لا إتلاف المال على صاحبه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه. ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله خرجه البخاري.
على أن حديث أبي أمامة في إسناده لين، وأعلى منه إسنادًا وأقوى ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين ولم يخص برًا من بحر. وكذلك ما رواه أبو قتادة: أن رجلًا قال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله أيكفر الله عني خطاياي؟ فقال له رسول الله: نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ فقال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أيكفر الله عني خططاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم وأنت صابر محتبل ومقبل غي مدبر إلا الدين فإن جبريل قال لي ذلك.
وخرج أبو نعيم الحافظ بإسناده عن قاضي البصريين شريح عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يدعو صاحب الدين يوم القيامة فيقول يا ابن آدم فيم أضعت حقوق الآدميين؟ فيم أذهبت أموالهم؟ فيقول: يا رب لم أفسده ولكن أصبت إما غرقًا أو حرقًا فيقول الله عز وجل: أنا أحق من قضى عنك اليوم فترجح حسناته على سيئاته فيؤمر به إلى الجنة. رواه من طرق. وقال يزيد بن هارون في حديثه فيدعو الله تعالى بشيء فيضعه في ميزانه فيثقل. غريب من حديث شريح تفرد به صدقة بن أبي موسى عن أبي عمران الجوني.
قلت: هذا نص في قضاء الله سبحانه الدين إذا لم يؤخذ على سبيل الفساد والحمد لله الموفق للسداد، والمبين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ما أبهم واستغلق من مشكل على العباد، وقد قال بعض العلماء: إن أرواح المؤمنين كلهم في جنة المأوى وإنما قيل لها: المأوى لأنها تأوي إليها أرواح المؤمنين وهي تحت العرش فيتنعمون بنعيمها، ويتنسمون من طيب ريحها، وهي تسرح في الجنة وتأوي إلى قناديل من نور تحت العرش وما ذكرناه أولًا أصح والله أعلم.
وقد روى ابن المبارك: أخبرنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان قال: حدث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أرواح المؤمنين في طير كحالزرازير يتعارفون، يرزقون من الجنة. أخبرنا ابن لهيعة قال: حدثني يززيد بن أبي حبيب أن منصور بن أبي منصور، حدثه قال سألت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقلت أخبرني عن أرواح المسلمين أين هي حين يتوفون؟ قال: ما تقولون أنتم يا أهل العراق؟ قلت: لا أدري. قال: فإنها صور طير بيض فيظل العرش وأرواح الكافرين في الأرض السابعة. وذكر الحديث.
قلت: فهذه حجة من قال: إن أرواح المؤمنين كلهم في الجنة والله أعلم. على أنه يحتمل أن يدخله من التأويل ما تقدم والله أعلم فيكون بالمعنى: أرواح المؤمنين الشهداء وكذا فقلت: أخبرني عن أرواح المؤمنين الشهداء. والله أعلم.
وروى ابن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد أنه سمعه ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إن أرواح الشهداء تجول في طير خضر.
فصل:
وقع في حديث ابن مسعود: أرواحهم في جوف طير خضر وفي حديث مالك: نسمة المؤمن طائر وروى الأعمش عن عبد الله بن مرة قال: سئل عبد الله بن مسعود عن أرواح الشهداء؟ فقال: أرواح الشهداء عند الله كطير خضر في قناديل تحتة العرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم ترجع إلى قناديلها. وذكر الحديث.
وروى ابن شهاب عن ابن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أرواح الشهداء طير خضر تعلق في شجر الجنة وهذا كله مطابق لحديث مالك فهو أصح من رواية من روى أن أرواحهم في جوف طير خضر. قاله أبو عمر في الاستذكار.
وقال أبو الحسن القابسي: أنكر العلماء قول من قال في حواصل طير لأنها رواية غير صحيحة، لأنها إذا كانت كذلك فهي محصورة مضيق عليها.
قلت: الرواية صحيحة لأنها في صحيح مسلم بنقل العدل عن العدل فيحتمل أن تكون الفاء بمعنى على فيكون المعنى أرواحهم على جوف طير خضر كما قال تعالى: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} أي على جذوع النخل وجائز أن يسمى الظهر: جوفًا: إذا هو محيط به ومشتمل عليه. قال أبو محمد عبد الحق: وهو حسن جدًا.
وذكر شبيب بن إبراهيم في كتاب الإفصاح المنعم على جهات مختلفة. منها ما هو طائر يعلق من شجر الجنة. ومنها ما هو في حواصل طير خضر. ومنها ما يأوي في قناديل تحت العرش. ومنها ما هو في حواصل طير بيض. ومنها ما هو في حواصل طير كالزرازير. ومنها ما هو في أشخاص صور من صور الجنة. ومنها ما هو في صور تخلق لهم من ثواب أعمالهم. ومنها ما تسرح وتعود إلى جثتها تزورها. ومنها ما تتلقى أرواح المقبوضين. وممن سوى ذلك ما هو في كفالة ميكائيل. ومنها ما هو في كفالة آدم. ومنها ما هو في كفالة إبراهيم عليه السلام. وهذا قول حسن فإنه يجمع الأخبار حتى لا تتدافع، والله بغيبه أعلم وأحكم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله: {ولا تحسبن} عطف على {قل فادرءوا عن أنفسكم الموت} [آل عمران: 168]، فلمّا أمر الله نبيئه أن يجيبهم بما فيه تبكيتهم على طريقة إرخاء العِنان لهم في ظنّهم أنّ الذين قتلوا من إخوانهم قد ذهبوا سُدًى، فقيل لهم: إنّ الموت لا مفرّ منه على كل حال، أعرض بعد ذلك عن خطابهم لقلّة أهليتهم، وأقبل على خطاب من يستأهل المعرفة، فقال: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا} وهو إبطال لما تلهّف منه المنافقون على إضاعة قتلاهم.
والخطاب يجوز أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم تعليمًا له، وليُعلِّم المسلمين، ويجوز أن يكون جاريًا على طريقة العرب في عدم إرادة مخاطب معيّن. اهـ.

.قال القرطبي:

لمّا بيّن الله تعالى أنّ ما جرى يوم أُحُد كان امتحانا يُميّز المنافق من الصَّادق، بيّن أن من لم ينْهَزِم فقُتل له الكرامةُ والحياةُ عنده.
والآية في شُهَداء أُحُد.
وقيل: نزلت في شهداء بئر مَعُونة.
وقيل: بل هي عامّة في جميع الشهداء.
وفي مصنف أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمّا أُصيب إخوانكم بأُحُد جعل الله أرواحهم في جَوْف طَير خضر تَرِد أنهار الجنة تأكُل من ثمارها وتأوِي إلى قناديلَ من ذهب معلَّقةٍ في ظِلّ العَرْش فلما وجدوا طِيب مأْكَلِهم ومَشْرَبهم ومَقِيلهم قالوا مَن يُبلِّغ إخوانَنَا عنّا أنّا أحياءٌ في الجنة نُرْزَق لئلا يَزْهَدوا في الجهاد ولا يَنْكُلوا عند الحرب فقال الله سبحانه أنا أبلغهم عنكم» قال فأنزل الله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا} إلى آخر الآيات.
وروى بقِيّ بن مَخْلَد عن جابر قال: لقِيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا جابر ما لي أراك مُنَكِّسًا مُهْتَمًّا؟» قلت: يا رسول الله، اسْتُشْهِد أبِي وترك عِيالًا وعليه دَيْنٌ؛ فقال: «ألاَ أُبَشِّرك بما لقي الله عزّ وجلّ به أباك»؟ قلت: بلى يا رسول الله.
قال: «إن الله أحْيَا أباك وكلمه كِفاحًا وما كلّم أحد قطُّ إلاَّ من وراء حجاب فقال له يا عبدي تَمنّ أُعْطِك قال يا رب فرُدّني إلى الدنيا فأُقْتَل فيك ثانيةً فقال الربّ تبارك وتعالى أنه قد سبق مِني أنهم (إليها) لا يرجعون قال يا ربّ فأبلغ مَن ورائي» فأنزل الله عزّ وجل: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} الآية أخرجه ابن ماجه في سُنَنه، والتَّرمذِيّ في جامعه وقال: هذا حديث حسن غرِيب.
وروى وكيع عن سالم بن الأفْطَس عن سعيد بن جبير {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} قال: لما أُصيب حمزة بن عبد المطّلب ومُصْعَب بن عُمير ورأوا ما رُزقوا من الخير قالوا: ليت إخواننا يعلمون ما أصابنا من الخير كي يزدادوا في الجهاد رَغْبَةً؛ فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا} إلى قوله: {لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين}.
وقال أبو الضحى: نزلت هذه الآية في أهل أُحُد خاصّةً.
والحديثُ الأوّل يقتضي صحةَ هذا القول.
وقال بعضهم: نزلت في شهداء بَدْر وكانوا أربعة عشر رجلًا؛ ثمانيةٌ من الأنصار، وستة من المهاجرين.
وقيل: نزلت في شهداء بئر مَعُونة، وقصتهم مشهورة ذكرها محمد بن إسحاق وغيره.
وقال آخرون: إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة وسرور تحسّروا وقالوا: نحن في النعمة والسرور، وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور.
فأنزل الله تعالى هذه الآية تَنْفِيسًا عنهم وإخبارًا عن حال قتلاهم.
قلت: وبالجملة وإن كان يحتمل أن يكون النّزول بسبب المجموع فقد أخبر الله تعالى فيها عن الشهداء أنهم أحياءٌ في الجنة يُرزقون، ولا مَحالَة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب، وأرواحهم حيّة كأرواح سائر المؤمنين، وفُضّلوا بالرزق في الجنّة من وقت القَتْل حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم. اهـ.

.قال في روح البيان:

قال القاشانى الأفصح الأبلغ أن يجعل الخطاب في {ولا تحسبن} لكل أحد لأنه أمر خطير يجب أن يبشر به كل واحد لتتوفر دواعيهم إلى الجهاد وليتيقنوا بحسن الجزاء وإن كان للرسول صلى الله عليه وسلم فالمراد به نهى الأمة وتنبيهم على حالهم وإلا فرسول الله أجل مرتبة من ذلك الحسبان. اهـ.

.قال الفخر:

هذه الآية واردة في شهداء بدر وأحد، لأن في وقت نزول هذه الآية لم يكن أحد من الشهداء إلا من قتل في هذين اليومين المشهورين، والمنافقون إنما ينفرون المجاهدين عن الجهاد لئلا يصيروا مقتولين مثل من قتل في هذين اليومين من المسلمين، والله تعالى بين فضائل من قتل في هذين اليومين ليصير ذلك داعيا للمسلمين إلى التشبه بمن جاهد في هذين اليومين وقتل، وتحقيق الكلام أن من ترك الجهاد فربما وصل إلى نعيم الدنيا وربما لم يصل، وبتقدير أن يصل إليه فهو حقير وقليل، ومن أقبل على الجهاد فاز بنعيم الآخرة قطعا وهو نعيم عظيم، ومع كونه عظيما فهو دائم مقيم، واذا كان الأمر كذلك ظهر أن الإقبال على الجهاد أفضل من تركه. اهـ.

.قال أبو السعود:

قال الإمام الواحدي: الأصحُ في حياة الشهداءِ ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن أرواحَهم في أجواف طيورٍ خُضْرٍ وأنهم يُرزقون ويأكْلون ويتنعمون. ورُوي عنه عليه السلام أنه قال: «لما أصيب إخوانُكم بأحُدٍ جعل الله أرواحَهم في أجواف طيورٍ خضْرٍ تدور في أنهار الجنة» وروي: «ترِدُ أنهارَ الجنةِ وتأكُل من ثمارها وتسرَح من الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديلَ من ذهب معلقةٍ في ظل العرشِ» وفيه دَلالةٌ على أن روحَ الإنسانِ جسمٌ لطيفٌ لا يفنى بخراب البَدَن ولا يتوقف عليه إدراكُه وتألُّمه والتذاذُه، ومن قال بتجريد النفوسِ البشريةِ يقول: المرادُ أن نفوسَ الشهداءِ تتمثل طيورًا خُضْرًا أو تتعلق بها فتلتذّ بما ذكر. وقيل: المرادُ أنها تتعلق بالأفلاك والكواكبِ فتلتذ بذلك وتكتسب زيادةَ كمالٍ. اهـ.

.قال الألوسي:

والقول بأن أرواحهم تتعلق بالأفلاك والكواكب فتلتذ بذلك وتكتسب زيادة كمال قول هابط إلى الثرى، ولا أظن القائل به قرع سمعه الروايات الصحيحة والأخبار الصريحة بل لم يذق طعم الشريعة الغراء ولا تراءى له منهج المحجة البيضاء وخبر القناديل لا ينور كلامه ولا يزيل ظلامه فلعمري إن حال الشهداء وحياتهم وراء ذلك. اهـ.

.قال الفخر:

قال عليه الرحمة:
اعلم أن ظاهر الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء، فإما أن يكون المراد منه حقيقة أو مجازا، فإن كان المراد منه هو الحقيقة، فإما أن يكون المراد أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء، أو المراد أنهم أحياء في الحال، وبتقدير أن يكون هذا هو المراد، فاما أن يكون المراد إثبات الحياة الروحانية أو إثبات الحياة الجسمانية، فهذا ضبط الوجوه التي يمكن ذكرها في هذه الآية.
الاحتمال الأول: أن تفسير الآية بأنهم سيصيرون في الآخرة أحياء، قد ذهب إليه جماعة من متكلمي المعتزلة، منهم أبو القاسم الكعبي قال: وذلك لأن المنافقين الذين حكى الله عنهم ما حكى، كانوا يقولون: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يعرضون أنفسهم للقتل فيقتلون ويخسرون الحياة ولا يصلون إلى خير، وإنما كانوا يقولون ذلك لجحدهم البعث والميعاد، فكذبهم الله تعالى وبين بهذه الآية أنهم يبعثون ويرزقون ويوصل إليهم أنواع الفرح والسرور والبشارة.
واعلم أن هذا القول عندنا باطل، ويدل عليه وجوه:
الحجة الأولى: أن قوله: {بَلْ أَحْيَاء} ظاهره يدل على كونهم أحياء عند نزول الآية، فحمله على أنهم سيصيرون أحياء بعد ذلك عدول عن الظاهر.
الحجة الثانية: أنه لا شك أن جانب الرحمة والفضل والإحسان أرجح من جانب العذاب والعقوبة، ثم أنه تعالى ذكر في أهل العذاب أنه أحياهم قبل القيامة لأجل التعذيب فإنه تعالى قال: {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَارًا} [نوح: 25] والفاء للتعقيب، والتعذيب مشروط بالحياة، وأيضا قال تعالى: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] واذا جعل الله أهل العذاب أحياء قبل قيام القيامة لأجل التعذيب، فلأن يجعل أهل الثواب أحياء قبل القيامة لأجل الإحسان والاثابة كان ذلك أولى.